تداعيات غياب إيران- مستقبل فلسطين وصراعات الشرق الأوسط المتجددة

حتى لو انتهت الحرب الدائرة بين إيران وإسرائيل، أو بين إيران والولايات المتحدة، فليس من المستبعد أن نشهد تصعيدًا جديدًا لهذا النزاع في المستقبل القريب. لقد أظهرت إيران قدرتها على تهديد العمق الإسرائيلي بفضل ما تملكه من ترسانة صاروخية وتقنيات متطورة. وفي حال اندلعت حرب أخرى، فقد يكون الهدف تغيير النظام الإيراني، حتى لو استدعى ذلك تدخلًا بريًا أو إشعال الفوضى الداخلية في إيران.
هذا الاحتمال المقلق يثير تساؤلًا مهمًا: ماذا سيحدث إذا اختفت إيران بنظامها الحالي من خريطة الشرق الأوسط؟ هذا السؤال هو محور تحليلنا التالي.
أولًا: القضية الفلسطينية
من بين أبرز التداعيات الخطيرة لأي تطور سلبي يمس إيران، هو استغلال إسرائيل والولايات المتحدة لهذا الوضع لتحديد مصير القضية الفلسطينية بشكل منفرد، سواء بتجميدها أو حتى العمل على إنهائها تمامًا.
سيتم ذلك من خلال سلسلة من الإجراءات العملية التي تشمل توسيع نطاق الاستيلاء على الأراضي، وتسريع وتيرة بناء المستوطنات، وفرض واقع جديد على الأرض. بالإضافة إلى ذلك، قد يتم اقتراح صيغة جديدة للتعامل مع قطاع غزة، والتي سبق للدول العربية أن رفضتها، وتُعرف حاليًا بمصطلح "اليوم التالي" لما بعد المجازر والإبادة الجماعية التي دمرت أسس الحياة في القطاع.
في ظل هذه الظروف، سيواجه المقاومون الفلسطينيون ضغوطًا نفسية هائلة، على الرغم من امتلاكهم ورقة الأسرى، مما قد يؤثر سلبًا على تمسكهم بخيار الكفاح المسلح.
من المؤكد أن القدس والمقدسات في الخليل وغيرها، إلى جانب وجود السلطة الفلسطينية في رام الله بناءً على اتفاقات أوسلو، وما تمثله من سيطرة رمزية على مناطق محدودة من الضفة الغربية، قد تتلاشى وتصبح في طي النسيان.
يزداد هذا الاحتمال ترجيحًا في ظل وجود حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة، تعيش حالة من الغرور بالانتصار والثقة المفرطة، خاصة بعد التدخل الأمريكي المباشر في الحرب.
يبدو أن إسرائيل تستمّد تشجيعها على المضي قدمًا في هذه السياسات من قناعة الولايات المتحدة والقوى الأوروبية التي دعمت قيام إسرائيل منذ البداية، بأن تل أبيب هي الطرف المنتصر الذي يحق له فرض رؤيته وشروطه.
وبناءً على ذلك، فإن جميع التصريحات السابقة حول حل الدولتين، ورفض الاستيطان، والحفاظ على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، ستوضع جانبًا وتُعتبر من الماضي.
ثانيًا: إسرائيل ودول الجوار الجغرافي
في محيطها العربي القريب، تبدو المخططات الإسرائيلية أكثر تعقيدًا وتشابكًا. فعلى الحدود الجنوبية مع مصر، يظهر سيناريو تهجير سكان غزة إلى سيناء، وهو سيناريو بالغ الخطورة قد يُنفذ على أرض الواقع.
على الرغم من الرفض القاطع من الجانب المصري لهذه الفكرة، إلا أن الضغوط الإقليمية والدولية قد تكون غير مسبوقة هذه المرة. وبالتالي، فإن التصدي لهذا المخطط قد يتطلب من القاهرة اتخاذ مواقف حاسمة وغير تقليدية، قد تصل إلى التهديد بالمواجهة العسكرية، على الرغم من أن هذا الاحتمال لا يزال بعيدًا في الوقت الحالي.
أما بالنسبة للأردن، فإن الوضع يبدو أكثر ليونة من وجهة النظر الإسرائيلية، حيث يمكن طرح خيار تهجير أعداد كبيرة من الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأراضي الأردنية، مقابل وعود أمريكية بتقديم دعم اقتصادي كبير، قد لا تقدمه واشنطن بشكل مباشر، بل من خلال أطراف دولية أخرى، هذا إذا وفت بوعودها أصلاً.
وفيما يتعلق بسوريا، تُطرح سيناريوهات غير معلنة قد تؤدي إلى ترتيبات ميدانية جديدة، يتم من خلالها إعادة تنظيم التوازنات في الجنوب، مما يمنح النظام الحالي قدرًا من الاستقرار.
أما في لبنان، فإن إنهاء مهمة قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) على الحدود الجنوبية قد يكون مسألة وقت فقط، إذ يكفي إطلاق رصاصة واحدة، أو حتى تلفيقها، لتتخذها إسرائيل ذريعة للتدخل العسكري، وفرض شريط حدودي يمتد لعدة كيلومترات جنوب نهر الليطاني.
ثالثًا: الاتفاقات الأبراهامية
في إطار سعيها لإعادة تشكيل المنطقة وفقًا لرؤيتها الخاصة، ستسعى إسرائيل، بعد أن شعرت ببلوغ ذروة قوتها، إلى تسريع وتيرة تطبيع علاقاتها مع ما تبقى من الدول العربية الكبرى التي لم تنضم بعد إلى "الاتفاقات الإبراهامية".
لكن هذه المرة، لن يقتصر الأمر على علاقات شكلية أو دبلوماسية، بل ستتجه إسرائيل نحو إبرام اتفاقات شاملة تتضمن الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية.
الهدف من هذه الاتفاقات يتجاوز مجرد التقارب، بل يهدف إلى تقليص سيادة تلك الدول تدريجيًا، مما يجعل إسرائيل اللاعب الأساسي في إدارة موارد وثروات المنطقة.
ستحظى هذه المساعي بدعم أمريكي واسع النطاق، حيث ترى واشنطن فيها أداة فعالة لطرد النفوذ الروسي والصيني من منطقة الشرق الأوسط، وإعادة ترتيب المنطقة بما يخدم المصالح الغربية في المقام الأول والأخير.
رابعًا: تجزئة المجزأ وشرذمة المشرذم
في خضم نشوتها بما تعتبره "انتصارًا"، قد تلجأ إسرائيل إلى الكشف علنًا عن خطتها القديمة التي طالما تداولتها أوساطها الإستراتيجية في الخفاء، والتي تقوم على دعم الأقليات الدينية والإثنية داخل العالم العربي، ليس فقط بشكل غير مباشر كما في السابق، بل من خلال إعلان صريح وواضح يهدف إلى تفتيت المنطقة إلى كيانات صغيرة وضعيفة.
ستُعاد إحياء المشاريع التقسيمية القديمة، لتحويل بعض المكونات الطائفية والعرقية إلى شبه دول: شيعية، سنية، درزية، مارونية، قبطية، شركسية، كردية، وأمازيغية.
قد يتم تسليح هذه الكيانات في بعض الأحيان لمواجهة الدولة المركزية، بل قد تُزج لاحقًا في صراعات متبادلة مع مثيلاتها الطائفية أو القومية (مثل الصراع السني/الشيعي، أو العربي/الكردي، أو المسلم/القبطي...).
قد لا تقتصر الفوضى على هذا النطاق، بل قد تمتد إلى اقتتال داخلي داخل كل فئة على حدة: كردي ضد كردي، ومسيحي ضد مسيحي... وه وهكذا، بما يضمن لإسرائيل بيئة مجاورة مضطربة لا تشكل عليها أي تهديد مستقبلي.
خامسًا: شرق أوسط جديد
من بين المهام الإستراتيجية التي تسعى إسرائيل إلى تنفيذها، تهيئة بيئة إقليمية تمكنها من فرض سيطرتها الكاملة دون وجود أي منافسين حقيقيين. وفي هذا السياق، تُعرض الاستثمارات الإسرائيلية، مدفوعة بغطاء سياسي واقتصادي، على دول عربية ثرية، بحيث تصبح هذه الدول مع مرور الوقت أسيرة لمصالح إسرائيل، وتابعة لها اقتصاديًا وإستراتيجيًا.
أما البحر الأحمر، الذي كان يُنظر إليه في خمسينيات القرن الماضي كفضاء إستراتيجي عربي، فهو مرشح اليوم ليتحول إلى ما يشبه البحيرة الإسرائيلية، من خلال السيطرة على الممرات البحرية والجزر الممتدة من باب المندب جنوبًا حتى شمال البحر. لقد توصلت إسرائيل إلى قناعة بأن من يمتلك مفاتيح هذا الممر يمتلك قدرة حاسمة على تهديد أو حماية تجارتها الدولية.
وفي شرق البحر الأبيض المتوسط، وتحديدًا في بحر غزة، وصولاً إلى السواحل المقابلة لقبرص واليونان وتركيا، تتطلع إسرائيل إلى بسط نفوذها الكامل على الثروات الغازية والنفطية، وجعل هذا الامتداد البحري خاضعًا لمصالحها الحيوية.
تمتد هذه الطموحات إلى القارة الأفريقية، حيث تسعى إسرائيل، من خلال علاقتها المتينة مع إثيوبيا وإريتريا، إلى توسيع نفوذها الاقتصادي والعسكري هناك، ومنافسة قوى دولية كبرى مثل الصين وروسيا وفرنسا على الأسواق والموارد والنفوذ في تلك المناطق الحيوية.
في مواجهة الإستراتيجية الصهيونية
في ظل هذا المشهد المعقد والمتشابك، يصبح من الضروري أكثر من أي وقت مضى أن تبحث الدول العربية، وعلى رأسها مصر، عن بدائل أمنية وإقليمية للحد من التوسع الصهيوني المحتمل. فمصر، باعتبارها القوة العسكرية الأكبر في المنطقة، مؤهلة للاضطلاع بدور محوري في صياغة هذا التوازن المضاد.
ليس من الحكمة أن تنتظر القاهرة أو العواصم العربية الأخرى حتى تكتمل اللحظة الحاسمة للهجوم على طهران، بل يجب اتخاذ إجراءات وقائية واستباقية منذ الآن.
من بين أهم هذه الإجراءات، الوقوف بحزم في وجه مخطط تهجير الفلسطينيين إلى الأراضي المصرية، وذلك لما لهذا الموقف من أهمية في الحفاظ على القضية الفلسطينية حية على الساحة الدولية.
بالإضافة إلى ذلك، يعتبر تعزيز التعاون الإستراتيجي بين الدول العربية من جهة، وكل من روسيا والصين وتركيا من جهة أخرى، خيارًا واقعيًا وواعدًا يمكن أن يساهم في كبح التدخلات الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، خاصة إذا تحولت هذه الشراكات إلى صيغ اقتصادية وعسكرية راسخة.
من الأهمية بمكان أيضًا إعادة تقييم مسار "الاتفاقات الإبراهامية"، والسعي إلى وقف موجة التطبيع المتسارعة، خاصة وأن مبرراتها السابقة، وعلى رأسها "الخطر الإيراني"، قد تراجعت أو تلاشت تمامًا. لم تعد بعض الدول العربية مضطرة للامتثال لسياسة التخويف الأمريكية، التي طالما استخدمت لدفعها نحو تحالفات أمنية علنية أو سرية مع إسرائيل.
من بين أوراق الضغط الإستراتيجية الأخرى، تشجيع إيران على إقامة تحالفات عسكرية مع الصين أو روسيا، وهي خطوة كانت طهران تتحفظ عليها في السابق، لكنها اليوم، بعد استهداف منشآتها النووية، قد تجد أنها نادمة على ترددها السابق، وأكثر استعدادًا للانخراط فيها.
إن الحقائق الراهنة تفرض على الدول العربية أن تتحرك بسرعة لحماية أمنها القومي، وألا تكتفي برد الفعل بعد فوات الأوان، لأن تأجيل المواجهة قد يؤدي إلى واقع أكثر إيلامًا وتعقيدًا في المستقبل القريب.